تحت اشعة شمس كرميان الحارقة، يجلس سيامند محمد بجوار حوض مملوء بمياه آسنة مائلة للاخضرار، يشعل سيجارة بأخرى والقلق ينتابه خوفاً من نفوق وجبة أخرى من الأسماك التي يربيها في الحوض.
مخاوف سيامند لم تأت من عدم، فخلال 24 ساعة نفق 25 طناً من أسماكه بسبب تلوث مياه الأحواض، وكبده ذلك خسائر تقدر بملايين الدنانير.
تقع احواض سيامند في قرية بانئاسياوي بناحية كوكس التابعة لإدارة كرميان، هناك يربي سيامند أسماكه ويقوم بتسويقها ايضاً، لكن في هذه القرية رائحة مياه الصرف الصحي تطغى على رائحة السمك.
"مصدر مياه مشاريعنا هو نهر سيروان، مياه مجاري قضاء كلار وبلدة كردة كوزينة تصب في النهر وهذا هو سبب نفوق اسماكنا"، بحسب سيامند محمد (54 سنة) الذي يدير مشروعاً مشتركاً لتربية الأسماك يعتاش منه 15 آخرون.
وفقاً لمتابعة ميدانية، معظم أحواض تربية الأسماك في كرميان تعاني من نفس المشكلة، لون مياه الأحواض تغير وأصبحت مائلة للاخضرار بسبب مياه الصرف الصحي التي تصب أعلى النهر.
رئيس بلدية قضاء كلار، أكرم صالح، ورئيس بلدية ناحية كردة كوزينة، كمال علي، أكدا بأن مياه مجاري المنازل في مناطقهم تصب مباشرة في نهر سيروان.
"مياه الصرف الصحي في كردة كوزينة تصب عن طريق خمسة الى ستة قنوات في نهر سيروان، التصميم الذي نفذ سابقاً لتأسيس شبكات الصرف الصحي لم يراعي تأثيراتها المستقبلية على النهر والبيئة"، بحسب كمال علي.
مياه مشاريع تربية السمك قذرة آسنة لدرجة يتعذر فيها رؤية الأسماك داخلها، في بعض زوايا الحوض تقع عيناك على أسماك نافقة تطفو مع الطحالب.
خسرو عبدالكريم برزو (50 سنة) يشعر بالحسرة وهو يرى مصدر عيش أربعة اشقاء و30 شخصاً آخرين على المحك، "مشكلتنا هي أن مياه مجاري كلار وكردة كوزينة تصب في النهر، بالأخص مياه كردة كوزينة التي تختلط كلياً بالنهر".
يملك خسرو مشروع أسماك ميران بقرية كلة شيرتبة التابعة لناحية كوكس بإدارة كرميان ويتألف من خمسة أحواض على مساحة 36 دونم، ويبلغ انتاج المشروع حوالي 70 طن في السنة.
يقول خسرو، "الانتاج تراجع بشكل كبير خلال الأعوام القليلة الماضية، الأمراض اصابت جميع المشاريع منذ ثلاث سنوات وكبدتنا خسائر فادحة، بحيث أن خسائر كل مشروع بلغت 80 مليون دينار وباتت تتجه نحو الإغلاق".
"كانت الأمراض تصيب الأسماك سابقاً لكن ليس بهذه الدرجة، معظم الأمراض كانت بكتيرية وتتم معالجتها ببعض المضادات، لكن الأمراض المتفشية حالياً هي أمراض فيروسية لا يمكن علاجها، والسبب هو تلوث المياه"، واشار خسرو الى أن مربي الأسماك ناشدوا الجهات المعنية عديد المرات لكن دون جدوى.
يوجد 47 مشروع لتربية الأسماك في كرميان تضم 86 حوض، فضلاً عن مشاريع مماثلة أخرى تنتظر الترخيص، وفقاً لإحصائية كشف عنها قسم الثروة الحيوانية في مديرية زراعة كرميان.
بختيار أحمد، مدير قسم الثروة الحيوانية في المديرية العامة للزراعة في كرميان قال "مياه مجاري كلار وكردة كوزينة التي تصب في نهر سيروان كان لها تأثيرها، العام الماضي انتشرت بعض الأمراض وألحقت خسائر كبيرة بمشاريع تربية السمك".
"هناك مطالبات بتشكيل غرفة عمليات لمواجهة المشكلة، شددنا على أن مياه الصرف الصحي التي تصب في سيروان هي مصدر للأمراض، لكن دائرة الصحة نفت ذلك والبلدية عاجزة عن حل المشكلة لأنها تتطلب ميزانية خاصة".
بحسب بختيار، اقترحوا إنشاء حفر لترشيح مياه مجاري المنازل وتصفيتها على الأقل من المواد الثقيلة لتفادي اختلاطها بمياه النهر مباشرة، لكن "لم تكن هناك أي استجابة".
ويأتي ذلك في الوقت الذي ينص فيه قانون إدارة وحماية المياه في اقليم كوردستان رقم 4 لسنة 2022 على أن تلويث المياه بأي سبب من الأسباب، من ضمنها النفايات ومياه المجاري والتي تضر بصحة الإنسان و والكائنات الأخرى والبيئة، يترتب عليه عقوبة السجن لمدة لا تقل عن ستة اشهر مع غرامة تصل الى 10 ملايين دينار.
طوال السنوات التي كانت فيها الدوائر الحكومية في نقاشات عقيمة بشأن كيفية معالجة تلوث المياه، كانت خسائر سيامند محمد تتضاعف، "خلال السنتين الماضيتين تعرضنا لخسائر كبيرة، بلغت خسائري حوالي 50 الى 60 مليون دينار، نفقت اسماكي خلال اليومين الفائتين والسبب يعود كلياً لتلوث المياه"، حسبما قال سيامند.
سيامند اسس مشروعه على مساحة 13 دونم ويضم ثلاثة احواض كبيرة تربى في كل واحدة منها 13 ألف سمكة ويبلغ الانتاج السنوي للمشروع 25 طن.
يقول سيامند، "من أبرز الأمراض التي أصابت اسماكنا، ديدان السمك التي تصيب جسم وحراشف وامعاء السمكة، فضلاً عن إصابتها بالعفن، كعفن الأذن وكذلك انقطاع الأوكسجين".
إذا كانت مياه الحوض نظيفة يتوجب تغييرها مرة في الأسبوع، لكن مياه أحواض سيامند ينبغي تنظيفها وتغييرها كل 24 ساعة، "بسبب كون المياه آسنة، نضطر لتغييرها بعد مدة قصيرة، فضلاً عن ذلك نصبنا أجهزة تزويد الأوكسجين في الأحواض".
الإعلام الرسمي لهيئة حماية وصيانة البيئة نشرت تحذيراً أشارت فيه الى أن مخلفات المنازل ومياه المجاري تحوي على أنواع متعددة من البكتيريا والفيروسات التي تلوث مياه الأنهر والبحيرات، استهلاك هذه المياه عن طريق الشرب أو تناول الأسماك والأحياء المائية التي تنمو فيها يصيب الانسان بعدة أمراض منها أمراض الجلد والإسهال وحمى التيفوئيد.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، المياه الملوثة بالجراثيم، مصدر لأمراض عديدة كالإسهال والكوليرا.
"اختلاط مياه مجاري المنازل بمياه نهر سيروان يؤثر 100 بالمائة على مشاريع تربية السمك ويصيبها بالأمراض، بالأخص الديدان التي تصيب الأسماك، لأن مياه المجاري تحتوي على مواد معدنية ثقيلة وتعد بيئة مناسبة جداً لنمو الجراثيم والعفن والبكتريا"، كما أوضح الدكتور آريان ابراهيم، مدير بيطرة كرميان.
الأمراض المتفشية في أحواض تربية السمك بحاجة لبحوث، خصوصاً لمعرفة نسبة المعادن الثقيلة في المياه المستخدمة، على الرغم من عدم توفر أجهزة لتحديد هذه النسب، لكن الدكتور آريان أشار الى توفر جهاز فحص الأمراض البكتيرية (PCR) الذي قال بأنه يفي بالغرض.
بيطرة كرميان لديها لجان تزور مشاريع تربية الأسماك لغرض إعطاء النصائح والإرشادات، "أصحاب المشاريع أيضاً ارتكبوا اخطاء، فهم لا يعقمون الأحواض الى أن تصيبها الأمراض، كما أنهم يضعون فيها أعداد كبيرة من السمك، وأوضح آريان أن كل دونم ملائم لتربية 900 من صغار السمك، في حين يضعون فيه ألفي سمكة، الأمر الذي يؤدي الى عدم كفاية الأوكسجين".
مياه بعض مشاريع تربية الأسماك التي تعرف بمشروع ري (شيخ لنكر) والتي تأتي من نهر سيروان غيرت مياه مجاري المنازل لونها الى أسود و أخضر.
مؤيد أحمد، مدير ري كرميان يقول إن المشروع الاروائي يزود العديد من المشاريع بالمياه، بالأخص المزارع السمكية، "إحدى المشاكل التي تواجه المشروع تتمثل بمياه مجاري منازل قضاء كلار وناحية كردة كوزينة التي تلوث نهر سيروان".
مشروع ري (شيخ لنكر) أنشأ على مساحة 18 كيلومتر مربع ويتضمن 30 بوابة يستفيد منها المزارعون لري المحاصيل الزراعية وتربية الأسماك.
"عالجنا مشكلة مياه مجاري كلار، أبعدناها عن ها المشروع، على الرغم من أنها تظل تصب في نهر سيروان، لكن مجاري كردة كوزينة تصب مباشرة في مصدر ماء المشروع، وهذه مشكلة رئيسية للذين يعتمدون عليها لمشاريع تربية الأسماك، لأنها ملوثة".
البلدية عاجزة إزاء المشكلة، لأن إعادة تدوير مياه المجاري تتطلب ميزانية، حسبما قال مؤيد أحمد بعد أن ناقشوا المشكلة مع بلدية كردة كوزينة.
كمال علي، رئيس بلدية كردة كوزينة أكد ما قاله مؤيد، "لا توجد حلول، لأن البلدة نفسها تقع على ضفاف النهر، الحل الوحيد هو نصب وحدة لمعالجة مياه المجاري"، متسائلاً في الوقت نفسهن "لكن هل هذا ممكن؟"، تاركاً تساؤله دون رد شافي.
أكثر من 50 بالمائة من مياه الصرف الصحي في العالم تصب في الأنهر والمصادر المائية الأخرى، 11 بالمائة فقط يتم معالجتها وإعادة استخدامها، وفقاً لإحصائية لمنظمة الأمم المتحدة، في حين أن لإعادة الاستخدام فوائد مباشرة للإنسان، حيث يمكن أن تصبح المواد الموجودة فيها بديلاً للأسمدة الكيمياوية.
أكرم صالح، رئيس بلدية قضاء كلار –مركز إدارة كرميان-، قال "هناك حل واحد فقط وهو إعادة تدوير مياه المجاري"، ويتطلب ذلك تخصيص ما يقرب من خمسة ملايين دولار و"الحكومة لا يمكنها توفير ذلك، لذا عملنا على تنفيذ المشروع عن طريق الاستثمار".
كل مشروع سكني يبنى في المنطقة يحتاج لوحدة معالجة لمياه المجاري، البلدية تخطط لنصب وحدة معالجة لعموم قضاء كلار، ويقول أكرم "لا نعرف متى سيدخل المشروع حيز التنفيذ".
لا حلول في الأفق وانتاج مشاريع تربية الأسماك في كرميان يتراجع عاماً بعد آخر، حيث تشير إحصائية لقسم الثروة الحيوانية الى أن حجم الإنتاج في 2019 وصل الى 334 طن، لكنه تقلص العام الماضي الى 273 طن.
يحوم سيامند حول أحواض السمك والقلق بادِ عليه من زوال مشروعه، يستنشق سيجارته الخيرة ويدخل يده في حوض قديم يعلوه الصدأ ليخرج منها حفنة من طعام الأسماك ليرميها في الحوض متشبثاً بما تبقى له من الأمل.
هذه المادة انتجت في إطار برنامج توسيع دور المرأة في تغطية القضايا البيئية. البرنامج ينفذ من قبل مؤسسة (كركوك ناو) بدعم وتمويل من وزارة خارجية جمهورية ألمانيا الاتحادية.